بقلم: أبوبكر تيمكليت
كثيرة هي المصادر والمراجع والبحوث التي
حاولت جاهدة بما أوتيت من وسائل البحث العلمي نفض الغبار عن موروث أسا الثقافي
والفكري، وإرثها الحضاري والتاريخي لتعيد للبلدة سابق عزها وسالف مجدها. وهي مع
تعددها وتنوعها وكثرتها ووفرتها،ومع شرف أصحابها وثقلهم المعرفي ووزنهم الثقافي،
لاتزال بعيدة عن أسمى ما لأجله يدرس التاريخ،وأجل ما يمتحى من أحداثه العظام،ووقائعه
الجسام!
فبالرغم مما حبره الدارسون والباحثون،
وبالرغم مما سطره الخبراء والمهتمون تبقى قاصرة عن ملامسة القلوب ومخاطبة
الوجدان،وبناء بني الإنسان كما أراد الرحيم الرحمن.فما يغني بكاء الأطلال،ولا رثاء
من سكنها من شم الرجال، وما ينفع الأنين على سابق الأيام وفارط الأعوام،وما يجدي
الصياح والصداح، ولا النحيب والنواح،وما يغني التفاخر بالأنساب والأحساب والتمدح
بالإعجاب والإطناب وتعداد الأقران والأصحاب،والسعي إلى إحياء أمجاد فارغة،ونعرات
قبلية مقيتة مالم تكن ثمة نوايا صالحة طاهرة و إرادة حقيقية فاعلة،وعزائم متوجهة صادقة
لبناء الجيل وإصلاح الرعيل.
ولن يتأتى ذلك كله إلا إذا قام في قلوبنا
قائم العظة والاعتبار محل الإعوال والاستعبار،وأيقظتنا سياط العزم الصادق من مراقد
الذل والهوان الماحق، وابتعثتنا الهمم العالية من مرابض الخور والكسل الساحق.
وتعانقت الأجساد والأرواح تحت لواء التآلف والانسجام والتراحم والالتحام، وتحت
أعلام الحب والإخاء والود والصفاء وهي من أعظم مقومات الشخصية الإسلامية الفريدة،
و أحد أهم أسس الحياة الإنسانية، وقوام نهضتها ونواة بناءها، ولبنة عطائها.
من أجل ذلك -وما أعظم ما هنالك- لو أنخت
مطاياك على مشارف قصر أسا وجلت بناظرك حيث واحات النخيل الممتدة، وشموخ القصر في
كبريائه،ثم أدرت الطرف إلى تلك الروضة التي عفى عليها الدهر، وقد ضمت بين أحضانها
من ساكني الديار جموعا غفيرة، وأعدادا كثيرة،فلو نظرت إلى ذلك كله بعيون تنظر إلى
الآخرة. لعلمت أنها مواعظ إلهية، ودروس ربانية قامت مقام الواعظ فينا فيها للعاقل
معتبرا، وللسالك إلى ربه مدكرا، وللغافل اللاهي مزدجرا،وأن تلك المعالم والواحات
أكبر من أن تكون مجرد ملاذ للزائرين،
ونزهة للناظرين، وبلغة للقاصدين، وغاية المستطلعين. فما أكثر العبر وما أقل الاعتبار!
هذا القصر الشامخ على ذلك الطود الباذخ،
يحدثك عن صدق الأجداد وأمانتهم، وتآلفهم وتلاحمهم،وحسن أدبهم مع ربهم تبارك وتعالى
ومع بعض البعض،كل ذلك يحكيه القصر بحجارته الصماء الذي لا تشده إلا تربة بيضاء،ولا
يغطيه إلا سعف النخيل، ولايزال القصر -مع بساطتها- شامخا قرونا عديدة، ودهورا
مديدة، يجابه عوادي الزمن ومتقلبات الدهر،لا تزيله الكوارث، ولا تطيحه الدواهي!
هو أمر يفتق الأذهان ويحير العقول،ويأخذ
بمجامع القلوب حيث لم يحصل هذا في زماننا رغم تعدد الطاقات والإمكانات،وتنوع
أساليب البناء وطرائقه، وكثرة الخبراء والمهندسين، ناهيك عن ملايين الدراهم التي
تذروها رياح الفساد والإفساد، فما زالت حظوظ النفس حاضرة، والرقابة الذاتية غائبة.حقا
إنها وقفة تدعو كل من ولاه الله شيئا من أمر هذه البلدة مراجعة نفسه وتدقيق حساباته
حين يندم ولات مندم.
تحدثك واحات النخيل الغناء عن أجيال فريدة
حباها الله فكرا رشيدا،وعقلا سديدا،وزينها ببصيرة نافذة وذاكرة وقادة، فكرسوا
أعمارهم،وبذلوا جهدهم،واستفرغوا طاقاتهم ليتركوا لخلفهم هذه الثروة النباتية تغني
عوائلهم وتعيل فقيرهم،وتسد حاجاتهم،وترد جوعتهم فكانت نعمة من الله علينا بالغة،ومنة
منه إلينا سابغة انتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور،ومازالت إلى اليوم
ترفل في نعمائها،وتتقلب في آلائها.
هل من مدَّكر؟ وهل من معتبر؟ وهل من سائر
على دربهم مقتديا بهم في البذل والعطاء،والتضحية والوفاء بعيدا عن عالم البطالة
والتواكل، وحياة الغفلة والتغافل؟وهل من يقتدي بهم في حسن سمتهم ودلهم وتراجمهم
تلاحمهم بعيدا عن النعرات الحزبية والتعصبات المذهبية، والتمايزات العرقية وما
يصاحب ذلك من الشتم والسب والطعن والثلب؟
هذه الروضة تنبئك عن المصير المحتوم
والنهاية الحتمية لكل حي، فالإنسان مهما علت مرتبته،وسمت منزلته فلابد أن يأتي
اليوم الذي يرحل فيه عن هذه الدنيا! فهؤلاء القوم ممن سكنوا هذه الديار وتنعموا
بخيراتها وطيباتها وبعد أن قامت دولتهم وصالت وجالت.هاهم مساكين قد بادوا بعد أن
سادوا، ورحلوا بعد أن أقاموا! فهذا قصرهم محل إقامتهم واجتماعاتهم،وهذه واحات
النخيل ثمرة جهدهم وعطائهم ،وهذه قبورهم شاهدة عليهم! فما بعد الإعمار إلا الخراب،ومابعد
الظهور إلا الخفوت، ومابعد الإشراق إلا الأفول.
فإذا مررت أخي برياضهم الفيحاء فلا تنس
شكرهم وسابقتهم، وإذا خضت في مسالك قصرهم، فلا تبخل عليهمبدعوة خالصة منك إلى الله بأن يتغمدهمبواسع رحمته وكريم
عفوه، وأن يسكنهم فسيح جناته، وإذا مررت بقبورهم فلا تغفل عن الاستغفار لهم.
هذه العظات والعبر هي الكفيلة -بعد الله
تبارك وتعالى - لأن تنتج لنا جيلا متشبعا بتعاليم وروح الدين، وقيم وآداب الإسلام،ومبادئ
وأخلاق أهل الفضل والخير، فيحفظ تاريخه بما يقوّم مسيرته،ويضمن بقاءه واستمراره في
وجه الزوابع الفكرية،والعواصف العقدية، ويتألق في سماء البذل والعطاء بالقدوة
والإئتساء، عارفا لأهل الفضل فضلهم، ولأهل السبق سابقتهم.وصلى الله على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
إرسال تعليق