GuidePedia

0

 صورة للمناضل بابا علي أهراس

كثيرة هي الشخصيات التي بصمت تاريخنا المعاصر، وبقيت سيَرها - مع ذلك - طي الكتمان، هامات مغمورة تتساقط تباعا كأوراق الخريف على أرصفة النسيان. لم يُحدث لها ذكر ولا أُشير إليها ببنان. لكن من يعود أرذال تلك الثرى لا يخطئه الإحساس بالانتشاء لعظمة المكان... هنا قصر آسا.




       في بحر الثلاثينيات من القرن العشرين شهد درب إهراسن في قصر آسا مولد أحد أبرز وجوه الحركة الوطنية المغربية بهذا الربع القصي من البلاد، المناضل علي أهراس أو "بابا علي" كما يحلو للناس مناداته. تلقى تعليمه الأولي في مدارس آسا العتيقة، ومنها انتقل إلى مدرسة تنكرف ولازمها مدة لم تكن باليسيرة. تمكن خلالها من ختم حفظ القرآن الكريم والقراءات السبع ومتن الأجرومية وابن عاشر وابن جنيد وعلم اللغة والحساب، لينتقل إلى مدارس آيت بعمران في مواصلة رحلة النهل من العلوم الشرعية.
       عاد علي إلى مسقط رأسه آسا بعد رحلته العلمية الطويلة ليصطدم بواقع مخالف لما تركه عليه؛ وقد بلغت قبضة الاستعمار ذروتها، مسحة غضب تعلو الوجوه من
 استفزاز الفرنسيين للسكان. حمل بابا علي على عاتقه مهمة توعية الناس بجسامة المرحلة وأهمية التصدي للاستعمار، ومقاطعة المتعاونين معه. سلوكه هذا ورجاحة فكره لفتت إليه أنظار العلامة المجاهد محمد بن أحمد بوغدا " السي حيمود" الذي أسس خلية للمقاومة معتمدا على خدمات بابا علي وأحمد الأساوي المعروف بسي حماد وآخرين تختلف مهامهم داخل التنظيم ما بين المراقبة واستجلاب المنشورات والصحف وتهريب السلاح وتمويهه. عمل حيمود على تيسير التواصل بين خلية آسا وخلايا واد نون وسوس والدار البيضاء.

بالموازاة مع نشاطه السياسي، أشرع بابا علي أبواب منزله في وجه طلاب العلم أيام كانت سلطات الحماية الفرنسية تحارب التعليم العتيق، وتحمل الناس على تسجيل أبنائهم في سلك التعليم العصري في المدرسة العربية الفرنسية بالثكنة العسكرية لتلقين مبادئ اللغة الفرنسية إلى جانب العربية، هكذا أصبح منزل بابا علي يعج بحركة دؤوبة صعب التمييز فيها بين طلاب العلم والوطنيين. أثارت هذه الحركية ارتياب سلطات الاحتلال واستدعت مرارا شقيقه الأكبر إبراهيم وهو أحد وجهاء القبيلة للاستفسار عما يحدث داخل أسوار القصر، لكن محاولاتهم باءت بالفشل مما حدا بمراقب الشؤون الأهلية إلى إصدار أوامره باقتحام منزل بابا علي وتفتيشه بحثا عن دليل يزكي الإدانة، عندما اقتحمت الدورية المنزل كان بابا علي في جلسة مع بعض الوطنيين يطلعهم على جديد أخبار البلاد ومجريات الأحداث والمعارك، والتداول في بعض المراسلات التي عمل على إخفائها فجأة تحت صينية الشاي! وبقدرة قادر لم يظفر المفتشون للاهتداء إليها رغم تفتيشهم الدقيق للبيت.
ظل بابا علي سائرا على نهجه في تأطير الوطنيين وإحاطتهم حول أهم الأنباء؛ حول السلطان وعمليات جيش التحرير بالجنوب المغربي والأوضاع بالريف، فبات مصدر قلق سلطات الحماية وضباطها بمركز آسا، ولعل أكثر هؤلاء تغاضيا للنظر في أمر بابا علي الضابط الفرنسي بيير بيران الذي كان أقل عدائية للسكان.
       حَلَّ بيران بآسا في أواخر شهر أكتوبر سنة 1955م خلفا للنقيب لوزور، وجاء في مذكراته أن أحد أعوانه أخبره باقتراب موعد حلول جيش التحرير بآسا "من أجل إقامة العدل وتوقيف أهل النهب" وأردف مجيبا عن سؤاله عن مصدر الخبر؛ "لهم رجل بالقصر يمتلك مذياعا، في الليل يشرح الأنباء للناس إنه يقرأ الجرائد قال بأن جيش التحرير سيحتل قريبا آسا وكل البلاد ويعمل على اعتقال كل من ينهب الشعب ويخون السلطان" (ضَمَّنَ بيران مذكراته كتاب "المغامرة المغربية L'Aventure marocaine"، وصدرت الترجمة العربية لمذكراته تحت عنوان "مقامي بآسا"، ترجمة هيبتن الحيرش ومراجعة

حمادي هباد ، منشورات مركز الدراسات والأبحاث مشاريع، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2017، ص. 206).
       كان الأستاذ مولود بعيك قد صرح لي بأن علي أهراس "انحدر من أسرة عالمة معروفة بالعلم والفقه، وعمل على تأطير الشباب وحثهم على الجهاد، لم يحمل السلاح؛ لكنه حمل العلم ودم الغيور على أهله. قدم كل ما في وسعه للمجاهدين إبان الاستعمار، وأسس مع المناضلين الأوائل فرع حزب الاتحاد المحظور ( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) كان وقت ذاك من بين رفاقه؛ إبراهيم البدوي وحيمود ولاركو وباحسي لحسن وبعيك محمد وآخرون عملوا في سرية تامة. رغم ذلك؛ تعرض لحسن باحسي ورفاقه لمضايقات، وصودرت تجارتهم وتمت متابعتهم والتنكيل بهم، فزج السي لحسن في السجن بتهمة زائفة وكان المناضل سي علي حاضرا دائما في الساحة، يحضر الجرائد الممنوعة بمعية رفاقه ويتابعون الأحداث العربية والدولية عبر راديو صوت العرب بمصر وغيره، واستطاعوا تكوين خلية يضرب لها ألف حساب".

       أثار دخول البث الإذاعي حيز التداول اختلافا واسع النطاق في أوساط النخبة الدينية في مختلف مناطق المغرب آنذاك، فبالإضافة إلى التوترات السياسية التي رافقت

 البث الإذاعي، كانت هناك توترات فكرية ودينية عكستها ردود فعل العلماء بخصوص جواز الاستفادة من الوسائل التكنولوجية التي باتت تغزو المجتمع التقليدي أو تحريمها، في هذه الظروف ألف العلامة أحمد بن الصديق الغماري، كتابا وسمه بعنوان: "مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، دار الطباعة المحمدية، ط. 6، القاهرة، 1971م." وأبدى عبد الحي الكتاني (1884م/1962م) عدم تحفظه عن توظيف المذياع والمونوغراف شرط أن يكون ذلك لسماع القرآن الكريم والامتثال لآداب الاستماع أما محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي(1874م/1956م) فعُرف بمواقفه المؤيدة للمستحدثات التقنية منذ وقت مبكر، ورأى الحجوي أن المصلحة تقتضي الاستماع إلى المذياع، وجواز تسجيل المقرئين لمقاطع قرآنية لتذاع كبقية البرامج، وتعلل المعارضون بأن المذياع قد يتم تشغيله في أماكن مدنسة، لذلك؛ لا يجوز تسجيل القرآن في الإذاعة كما لا يجوز الإستماع إليه عبر المذياع، فيما تعلل آخرون بكون هذه المخترعات بعيدة عن القرآن والسنة، وجاء رد الثعالبي متضمنا في كتابه " السر المذاع في جواز قراءة القرآن أمام المذياع، مخطوط بالخزانة الوطنية للمملكة المغربية، د.ت.".
       في خضم هذا النقاش؛ استثمر رجال الحركة الوطنية البث الإذاعي لبث مقاطع حماسية ورسائل مشفرة للتواصل مع الوطنيين في كل الربوع بعد أن وطدوا علاقاتهم بمديريها الذين سمح بعضهم بإذاعة خطب معادية للسياسة الفرنسية بالمغرب والدعوة إلى الثورة على نظام الحماية.
       كثف علي أهراس اتصالاته وأنشطته السياسية عشية نفي محمد الخامس في غشت سنة 1953م،  وبدأت تدب في القصر حركية غير عادية؛ تجمعات يومية لا تستقر بمكان، ولا تكتمل إلا بحضور السي علي. يحدث الناس بآخر ما استجد في أخبار المقاتلين والغزاة وأحوال البلد في غياب السلطان، وقال لي من شهدوا مناظراته حينها أنه كان

 فصيحا ذو بيان، وصائب الرأي ذو برهان. له في كل مقام مقال، لا يعطي مقترحا أو يفند آخر إلا بحديث أو نص من القرآن.
       وحدثتني نسوة أنه كان يعظهن ويرشدهن إلى طرق حفظ أسرار أزواجهن الوطنيين الذين لا تكف الأعين عن ترصدهم حتى باتوا معروفين في أوساط الخاصة والعامة ب" آيت الوطان" بالنظر إلى نشاطهم الوطني. وحتى لا تتسرب أسرارهم إلى خارج أسوار القصر أو عند تفتيش البيت من طرف الدورية؛ كان السي علي يشير على النساء بإحراق الرسائل والتخلص منها بعيدا عن أعين الأطفال.
        نفي محمد الخامس ونفيت معه أحلام الوطنيين وأفراحهم، وبعد عودته في 16 نونبر سنة 1955م، انتقل السي علي إلى الرباط بمعية ثلة من الوطنيين لملاقاته، ومقاسمته فرحة الانتصار، وشاءت الأقدار أن تكون فرحة السي علي فرحتان، فعند عودته وجد زوجته "فطيم" التي تركها تصارع قدرها مع مخاض عسير قد وضعت أنتثى، اختار لها من الأسماء امباركة آملا أن يكون مستقبلها مختلفا عن مستقبل ابنين سبقاها إلى الحياة. وكذلك كان.   
       أسرت إلي امباركة بأن اهتمام والدها بتدريس الأطفال إنما صادف حاجة في نفسه؛ وهي الشديد حبه للناشئة والأطفال، إذ فقد خمسة من أبنائه في ظروف مختلفة، وهم؛ السالكة ومحمد ومحمد أوعلي وعبد السلام ورضيع حديث الولادة كان أول هؤلاء، بينما ترعرعت في كنفه امباركة وعائشة عبد الله ورقية وعبد المجيد وعبد الرحيم.
       في غمرة الاحتفال بعودة السلطان ظهرت إلى العلن مظاهرات حاشدة جابت أزقة القصر تقدمها السي علي مرددا الشعارات الوطنية والحشد يسايرونه. تتذكر امباركة أن والدها أحفظها صبية تلك الشعارات والأناشيد، فأردفت منشدة:
يا مليك المغرب .... يا ابن عدنان الأب
نحن جند للفدا ....  نحمي هذا الملك
عرش مجد خالد .... ماجدا عن ماجد
قد بناه الأولون .... في شموخ الملك
نحن لا نبغي به .... معزلا عن حزبه
إننا في حبه .... كلنا في ظله

       يؤكد الأستاذ بعيك أن شخصية المرحوم بابا علي جامعة لما تفرق في غيرها من قيم المواطنة الحقة، ففي سنة 1977 هَمَّ المقاومون بوضع ملفاتهم لدى مصالح مندوبية المقاومة وجيش التحرير لكن سي علي لم يكن من بينهم ورفض تقديم الملف مجيبا كل من ألح عليه في ذلك بأن ما قدمه للوطن من واجباته وأن جزاءه على الله.
       قضى بابا علي آخر أيام حياته بمنزله في آسا المركز، وتوفي أواخر سنة 1999م مخلفا منزله العتيق في القصر عابقا بأريج ذكريات من زمن النضال، مذياعه الذي علاه الغبار..، وأعداد من صحف كانت توسم بالمحظورة ومنشورات تحاكي أعداد رزمها عدد سنين النضال، في زمن كان مقدار السنة فيه ألف عام، عاش فيه رجال لا ككل الرجال. "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" (الأحزاب.23).

بقلم:الذكتور سعيد عدي


بمساعدة الاستاذ والشاعر : مولود بعيك

إرسال تعليق

 
Top