GuidePedia

0

[إن حركية الأدب والثقافة والشعر في الصحراء على مر التاريخ؛ عرفت ازدهارا ملفتا رغم حياة البداوة التي عاشها المجتمع، وشبه العزلة عن بقية الأقطار العربية، بفعل العديد من العوامل في مقدمتها  انتشار المحاضر العلمية، فعرفت تلك البقاع الصحراوية نهضة أدبية وثقافية كبيرة على مدى قرون. نهضة لم تغب عنها المرأة، بل سايرت تطور الأدب والشعر في الصحراء، اعتمادا على حضورها الوازن داخل المجتمع] 

بقلم: سعيد عدي: aadisaid22@gmail.com














يُعَدُّ كتاب "ظاهرة "التبراع" في الشعر النسائي الحساني دراسة في النسق السوسيوثقافي والجمالي" الصادر عن المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، ومطبعة أنفو-برانت بفاس، لصاحبه الدكتور عبد الحكيم بوغدا تأليفا أساسيا في استجلاء مكانة المرأة في المجتمع البدوي الصحراوي، ومقاربة علمية نحو التأسيس لكتابة تاريخ الأدب المغربي.
تناول المؤلَّف بداية تلك المكانة المتميزة التي أحاط بها المجتمع الصحراوي المرأة، داخل نسق سوسيوثقافي معتبرا الشعر النسائي الحساني "التبراع" إبداعا شفويا نسائيا، نشأ في بيئة طغت عليها القيم التقليدية المحافظة بحكم الطبيعة البدوية المتدينة للمجتمع وتفاعله مع عادات أهل الصحراء وتقاليدهم الواصلة امتدادا إلى قبائل صنهاجة التي سكنت المنطقة قبل هجرة العرب إليها. واهتم الكتاب بدراسة تمثل مراحل العزوبية والزواج و الطلاق في الذهنية البدوية الصحراوية،  وتأثير غياب المرأة في مقابل غياب الرجل على الأسرة والمجتمع.
لم يكتف"التبراع"  بمعاكسة الرغبة المحافظة للمجتمع فقط، بل تمرد عليها من خلال تحول أشعاره الغزلية العفيفة في أصلها والرمزية في أسلوبها، إلى بوح إباحي مباشر على شكل مساجلات ومحاورات شعرية عبرت من خلالها المرأة عن معاناتها الداخلية كنتاج طبيعي لوضعيتها في منطقة تجلت فيها قيم البداوة بمعانيها ودلالتها وقيمها الأصيلة.

تأسيسا على ذلك، اعتبر الباحث أن "التبراع" يوضح قدرة المرأة الحسانية على الإبداع، ويقيم البينة على تمكنها من اللغة وبراعتها في توظيف المحسنات البلاغية والاقتباسات القرآنية والأدبية، وتوظيف الأحداث والشخصيات التاريخية، والاستعانة بلغات ولهجات أخرى غير الحسانية، إنه تعبير عن رقة المرأة الصحراوية وقدرتها على إبداع شكل شعري بسيط وقصير، لكنه أكثر الطرق اختصارا لإيصال المعنى، وهو ما أضفى عليه طابع التميز والخصوصية، مقارنة مع أشعار نسائية قاسمته الخصائص ذاتها مثل شعر نساء البشتون بأفغانستان، ورباعات نساء فاس.
إن "التبراع" بانتمائه إلى الأدب الشعبي الحساني المشبع بقيم شعوب عمرت المنطقة مثل قبائل صنهاجة وقبائل الزنوج دليل على غنى الروافد الثقافية الشعبية بالمغرب. إذ تعد الثقافة الشعبية الحسانية بمختلف مكوناتها، من أغنى الروافد التي تبرز التنوع الثقافي المغربي، وقد أفرزت ثقافة أصواتا نسائية متعددة، برعت في فنون القول المختلفة من قبيل الحكاية والمثل والشعر داخل وسط اعتمد الحفظ الشفاهي للذاكرة الجماعية كبديل عن التدوين، ومن المؤكد أن البحث في مثل هذا الموضوع جسر للانفتاح على الآداب والثقافات الشعبية المغربية، لكونها وجها من أوجه تجلي التنوع الثقافي الذي ميز المجتمع المغربي، وسيساهم لا محالة في التأسيس للدرس الأدبي في شموليته، ونشر الاهتمام بالتراث جمعا وتحقيقا ودراسة. وإخراجه من غياهب النسيان، وجعله في مصاف الآداب العربية الإسلامية والعالمية. وأرضية صلبة لكتابة تاريخ أدبي مغربي جامع، يعطي لكل منطقة من المناطق دورها الحقيقي المسهم في ازدهار الفكر وتطوره التاريخي.
واعتبر صاحب الكتاب أن تناوله لهذا الموضوع مُساهَمة منهُ في التعريف بتراث منطقة ظلت إلى عهد قريب مجهولة لأبناء باقي المناطق المغربية، مما يساعد في توسيع دائرة الفهم والمعرفة بأهم المضامين والأشكال الثقافية والأدبية المختزنة في الصحراء على امتدادها الأطلسي. خصوصا أمام ما تطرحه ثقافة وأدب الصحراء من قضايا هامة شكلا ومضمونا. وسلط الضوء على العديد من الإشكالات منها؛ موقع المرأة ومكانتها الاجتماعية والعلمية داخل مجتمع الصحراء، وتصور الذهنية العامية للمرأة، وما مدى اقتصار تلك النظرة على المجتمع الصحراوي دون غيره؟ والأهم طبيعة ومفهوم المرأة/الأنثى في ثقافة الصحراء، هل هي صفة أم جوهر؟ مفهوم ثقافي مكتسب أم معنى إنساني مركب؟ مصدر للغواية أم للتعقل؟
وفي شق "التبراع" طرح الباحث عددا من الإشكالات منها ما هو مرتبط بروافده ومضامينه، ومنها ما تعلق بملامحه التعبيرية وسماته الفنية والجمالية، ثم أهم خصائصه الإبداعية شكلا ومضمونا، ومجيبا عن عدد من التساؤلات التي ظلت مطروحة إلى عهد قريب من قبيل؛ لماذا أحاطت النساء إبداعهن الشعري بالسرية؟ وسبب التسمية؟ فضلا طرح تساؤلات عن النسق الإبداعي للشاعرة الصحراوية في علاقته بالنسق الإبداعي الرجولي؟ وأخيرا عن تموقع الإنتاج الإبداعي النسائي في الصحراء داخل الوعي الجماعي؟
يطرح الكتاب في بعض الأحيان الإشكالات نفسها التي طرحها المتن المدروس، إذ جمع الباحث ما يربو عن ستمائة بيت من أشعار "التبراع"، الأمر الذي يسائلنا بدوره عن حجم التراكم المتحقق لهذا المتن، ومدى امتلاكه لخصوصيات تربطه بتربته المحلية، ومن ثم الوطنية، فالعالمية. كما أن الطبيعة الشفوية لهذا المتن تطرح أمامنا إشكالية جمعه بعيدا عن الاعتبارات الذاتية والعرقية والإيديولوجية، هذه العملية تعترضها العديد من التعقيدات لأسباب منها؛ أن هذا المتن يحدد هوية الإنسان الصحراوي ومن ثم يجب تناوله من داخله دون تسلط لقراءات قد تُخرجه عن واقعه، وإنما دراسته بوسائله الثقافية ومقوماته الخاصة التي يتضمنها ذاتيا.
يعتبر هذا الكتاب لبنة إضافة نوعية في التراكم الخاص بتوجيه الدرس الأدبي المغربي نحو الاهتمام بمجتمع الصحراء وثقافته وأدببه، لاسيما تعميق البحث حول شقه النسائي بما من شأنه الكشف عن القوانين والمعايير الاجتماعية والثقافية والأدبية التي حددت نمط العيش داخل مجال الصحراء. كما أنه يلامس ماهية وخصائص ومكونات شعر "التبراع" شكلا ومضمونا، وعمل يقرب نصوص "التبراع" من القارئ بإزاحة بعض غموضه الناجم عن توظيفه للهجة الحسانية، ونهله من الثقافة الشعبية الحسانية، وبتزويده ببعض الآليات التي تمكن القارئ من الولوج إلى أعماق "التبريعة" واكتشاف أسرارها.
بين دفتي الكتاب اجتمع ما تفرق من تلك الأشعار صونا لها من الضياع، وانبنى التصور العام الذي وضعه الباحث لمؤلفه على عدة عناصر، أولها مقدمة تم فيها تحديد الموضوع  وطرح عناصر الاشتغال عليه، ومدخل حاول حصر الإطار العام للموضوع تجنبا لدخول القارئ في تشعبات يمكن أن يطرحها، وكذا لتقريب فهم ما سيصادفه من قضايا ونصوص، مفترضا عدم المعرفته المسبقة بها، وذلك حتى يكون على بينة من كافة المؤثرات المجتمعية والتاريخية والثقافية لمجتمع الدراسة، والتي أثرت بشكل أو بآخر على حياة السكان.
ثم فصلين؛ تناول الأول تمثل المرأة الصحراوية لذاتها داخل مجتمع البداوة، ومكانتها ضمن بنية القبيلة في ظل تراتبية اجتماعية صارمة، ثم حضورها العلمي والأدبي الوازن، من خلال نماذج لنساء عُرفن بالأدب والثقافة والعلم والفقه، وأيضا تمثل وتصور الآخر لها، ثم كيف ساهمت كل هذه الأمور في تشكيل مفهوم المرأة والأنثى في الوعي الجمعي للمجتمع الصحراوي؟

عمد الباحث في ذات الفصل إلى إقامة نوع من التقابل المستفيض بين المرأة الصحراوية والصنهاجية، فيما يخص العادات والتقاليد والمكانة الاجتماعية التي ميزت الثانية وأرخت بظلالها التاريخية على الأولى، بحكم أن التأثير والتأثر بينهما كان جليا خصوصا بعد وصول القبائل العربية. فيما تناول الفصل الثاني شعر "التبراع" على اعتباره بؤرة الإبداع النسائي في الصحراء كما قال الباحث، والقيمة النوعية والجمالية لهذا الشعر، وأهم المواضيع والتيمات التي تَشكل منها، ثم علاقة المرأة بنفسها وبالآخر مجتمعا كان أم رجلا من خلال "التبراع" بوصفه قناة تواصل.
اعتمد الباحث مادة مصدرية متنوعة المشارب والحقول المعرفية، مستفيدا من تقاطعها مع الاشكالية التي طرحها، فكل مجال علمي تُقدم مصادره بشكل أو بآخر معلومات عامة أو خاصة عن الموضوع، ومنها مصادر ومراجع تاريخ ومجتمع وثقافة وأدب الصحراء، وكتب الرِّحلات على اعتبارها من أكثر ما أُلف حول المغرب عموما، فضلا عن الكتابات الاستشراقية التي مهدت في غالبيتها لاستعمار المنطقة وإخضاع مجتمعاتها للسيطرة الأجنبية، موظفا مجموعة هامة من الوثائق التاريخية والاجتماعية المتميزة بدقة الوصف وغزارة المعلومات، فضلا عن مجموعة أخرى من المصادر والمراجع من مختلف مجالات المعرفة الإنسانية. وبالتأكيد اعتمد الرواية الشفوية نظرا لطبيعة المتن المدروس والمجتمع المنتج له.
قدم الدكتور عبد الحكيم بوغدا النتائج التي خلصت إليها دراسته، مؤكّدا أن حركية الأدب والثقافة والشعر في الصحراء على مر التاريخ؛ عرفت ازدهارا ملفتا رغم حياة البداوة التي عاشها المجتمع، وشبه العزلة عن بقية الأقطار العربية، بفعل العديد من العوامل في مقدمتها انتشار المحاضر العلمية، فعرفت تلك البقاع الصحراوية نهضة أدبية وثقافية كبيرة على مدى قرون. نهضة لم تغب عنها المرأة، بل سايرت تطور الأدب والشعر في الصحراء، اعتمادا على حضورها الوازن داخل المجتمع، فساهمت مكانتها المرموقة داخله في ظهور شاعرات قارعن الرجال في أغراض عدة، والاستئثار بنوع شعري دون الرجل، وفرده لغرض واحد ووحيد هو الغزل، نوع شعري اصطلح على تسميته بـ"التبراع"، استطاعت من خلاله المرأة الصحراوية التعبير عن مشاعرها وأحاسيسها تجاه الآخر. شعر شكل وثيقة حية تعبر عن المضامين العاطفية والثقافية والاجتماعية وحتى التاريخية المختلفة التي تحصلت لدى المرأة الصحراوية من خلال حركيتها عبر التاريخ.
لقد مثلت المرأة الصحراوية حسب الباحث امتدادا موضوعيا للمرأة الصنهاجية، هذه الأخيرة كان لها حضور قوي في المجتمع الصنهاجي، حافظت عليه حتى في ظل التشدد الديني للدولة المرابطية، حيث ظل شكل الأسرة ذات النسب الأمومي صامدا لدى صنهاجة وتعايش وأثَّر في الأسر الأبيسية، ومنها مجتمع الصحراء الذي تَكَوَّن بعد وصول القبائل العربية إلى المنطقة.

ذيل الباحث كتابه بعدد من التوصيات، منها ضرورة إعادة الاعتبار لصوت المرأة المغيب في الأدب والثقافة الشعبيين، وصيانة النصوص وتطوير البحث فيها، والنظر إلى تراث الصحراء ليس على أساس الفلكلور، إنما على أساس ثقافة شاملة لها كافة المقومات، داعيا إلى توسيع انفتاح الجامعة المغربية على ثقافة الصحراء، باعتبارها مكونا من مكونات الثقافة المغربية، في علاقتها المتماهية مع باقي المكونات، وضرورة خلق قنوات اتصال بينها، وأخيرا تقوية التواصل الثقافي والفكري والحضاري بين كل مناطق المغرب، لخلق اندماج حقيقي وفعال بينها على كافة المستويات، كما دعا إلى تفعيل الإرادة السياسية في هذا السياق، مما يكفل تحقيق الاندماج الثقافي والاقتصادي بين سائر جهات ومناطق المغرب الموحد سياسيا، دينيا، وحضاريا.

ووجه الكاتب دعوة إلى الباحثين المتخصصين بضرورة إعادة قراءة نصوص "التبراع" بعيون تلغي كونها ردة فعل من المرأة ضد القيود التي فرضت عليها عاطفيا انطلاقا من السرية التي أحاطت به، لأن العديد من كبار الكتاب اتخذوا من السرية والجنون قناعا لقول ما لا يتقبله المجتمع دون أن يعني ذلك عدم القدرة على الظهور بوجه مكشوف، إنما بوصفه حديثا من وراء الستار، ووسيلة للترويح عن الأحاسيس وتفجير الآهات الداخلية، وإضفاء لمسة إبداعية على تلك الأشعار، فالمجتمع الذي مكن المرأة من تلك المكانة المتميزة لا يمكن أن يحرمها من التعبير عن عواطفها تجاه الرجل.

إرسال تعليق

 
Top